الكاتب: د. ذكي نجيب محمود
كما يتلقى الجد من حفيدته رسالة، فيشعر وهو يقرؤها وكأنما هو شاخص ببصره إلى تيار الزمن، يراه كالنهر دافقاً من بعيد بعيد، ومتجهاً إلى مصب بعيد بعيد، وما هو والحفيدة والرسالة إلا حلقة من سلسلة، أولها في الأزل وآخرها في الأبد، أقول إنه كما يتلقى الجد من حفيدته رسالة، تلقيت رسالة من طالبة تدرس الفلسفة، وهي الآن في آخر شوطها الجامعي، والطالبة تسألني - راجية أن تسمع مني الجواب - عن «الثقافة» ما معناها؟ تقول: هنالك موضوع يشغل بالي وبال زملائي.. وهو موضوع «الثقافة» فماذا تعني كلمة «ثقافة»؟ وما هو دور الثقافة في حياة الإنسان المعاصر؟ وأول ما أجيب به عن سؤالك يا ابنتي، هو أنك قد اخترت كلمة رواغة، لا يكاد صائدها يمسك بطرف من اطرافها، حتى تفلت من بين أصابعه، وذلك لأن اطرافها كثيرة ومتفرقة، حتى لنستطيع - إذا أنت أمسكت بأحدها، وظننت أنها الآن قد باتت في قبضتك، أن نستغني عن ذلك الجزء من اجزائها وتفر هاربة، وتظل مع ذلك «ثقافة» فإذا كان التعريف الجامع المانع يشبه أن يكون محالاً، إلا في المعاني الرياضية أو ما يجري مجراها، فهو أشد استحالة في تحديدنا لمعنى «الثقافة»، ومن هنا لها من التعريفات بقدر من تناولوها بمحاولات التحديد، فلكل من هؤلاء تعريفه لها، وكأننا نعيد على أنفسنا حكاية الفيل في مدينة العميان، إذ التفوا حوله كل يلمسه بأصابعه من حيث استطاع أن يلمسه، فلما سئلوا بعد ذلك: كيف وجدتموه؟ فكان لكل منهم جواب يختلف عن أجوبة الآخرين.
وها أنت ذي تسألينني: ما الثقافة؟ وسأقدم لك جواباً، لا أدعي أنه الجواب الذي لا جواب سواه، إذ هو جواب أصف به مسقط أصابعي على جسم الفيل، وللآخرين أجوبتهم، لكن هذا الاختلاف لا يعني بالضرورة أننا جميعاً على قدم المساواة من حيث الصواب والخطأ، بل سيكون بيننا تفاوت يُقاس بمقياس المنفعة وملاءمة الظروف، فالجواب الذي يجعل المثقف أكثر صلاحية لزمانه، أصدق من الجواب الذي من شأنه أن يقيم حجاباً بين المثقف والحياة في عصره، ولقد أحسنت يا فتاتي، عندما ذكرت كلمة «معاصر» في سؤالك: ما دور الثقافة في حياة الإنسان المعاصر؟ إذ لا شك في أن شروط «المثقف» قد تغيرت بتغير العصور، فكان لكل عصر ضرورات معينة يشترط توافرها فيمن يسمى بالمثقف، فحيناً كانت الفروسية شرطاً، وحيناً آخر كان التفلسف شرطاً، وحيناً ثالثاً كان الإلمام بشرائع الدين وقواعد اللغة شرطاً، وحيناً رابعاً كان اصطناع النظرة العلمية شرطاً، وهلم جرا، وبالطبع لم يكن لكل عصر شرط واحد يطالب بتوافره في المثقف، ولكنها كانت دائماً مجموعة قليلة من صفات أساسية هي التي يتطلبها كل عصر من مثقفيه.
فإذا تعددت بين أيدينا الآراء في تحديد «الثقافة» في عصرنا كيف يكون؟ فلا بد من الاحتكام عند المفاضلة إلى الحياة في عصرنا وما تتطلبه من المثقف، لنرى أي الآراء أقرب استجابة للعصر وظروفه، وفي هذا الإطار أتقدم إلى السائلة بجوابي.
لعل أكثر المداخل إلى موضوعنا يسراً ووضوحاً، هو أن نبين أولاً، كيف أن أدراك الإنسان لأوضاع الحياة التي يعشيها، ويعيشها معه سائر الناس، إنما يتم على ثلاث درجات متصاعدة، كل درجة منها تقام على الدرجة التي سبقتها لكن بينما يتحتم على كل فرد من الناس أن يمارس حياته على مستوى الدرجة الأولى، فإنه لا يتاح الصعود إلى الدرجة الوسطى إلا لبعض الناس دون بعض، ثم لا يتاح الصعود من الدرجة الوسطى إلى الدرجة التي تليها إلا للعدد الأقل من سكان الدرجة الوسطى.
أما أولى تلك الدرجات، وأدناها، فهي تلك التي لا بد فيها للإنسان من الإلمام بالكثير جداً من تفصيلات المكان الذي كتب له أن يعيش فيه، وبغير هذا الإلمام الذي يتفاوت فيه الأفراد كثرة وقلة، يتعذر الحصول على الطعام والشراب، وما يتبع ذلك من معلومات أولية ضرورية، فلا بد لكل إنسان أن يعرف - مثلاً - أين تكون وسيلة المواصلات؟ ومتي تتحرك؟ وأين يجد العلاج إذا أصابه مرض؟ وما هي الصحف اليومية التي تباع وأين تباع؟ وأن يعرف أين مكتب البريد؟ ما الطريق إلى المدارس التي يلحق بها ابناءه؟ وما هي الاجراءات التي تتخذ في هذا السبيل؟ وهكذا من تفصيلات الحياة اليومية الجارية - وإلى هنا لا «ثقافة». وقبل أن اترك هذه الدرجة الأولى، التي لا مناص من معرفة ما استطعنا معرفته من تفصيلاتها، لكي تدور معنا عجلة الحياة، أود أن ألفت النظر إلى أن هنالك من ضروب المعلومات الأولية التفصيلية ما ليس له أول ولا آخر، وبعضها قد يخدع بحيث يظن أن الإلمام به نوع من «الثقافة» في حين أنه لا يندرج في دنيا الثقافة، بناء على المقياس الذي أنا في سبيل عرضه وشرحه، فمثلاً، قد تجد من الناس من يعرف كم فداناً تبلغ مساحة الأرض المزروعة في مصر وكم من هذه المساحة يزرع قطناً؟ وكم منها يزرع قمحاً؟ كم يبلغ عدد السكان في عواصم المحافظات؟ وما شابه ذلك من تفصيلات الأمر الواقع، كل هذه تدخل في نطاق الدرجة الأولى من الدرجات الثلاث التي أشرنا إليها، وأكرر القول بأن هذه المرحلة الأولى والاولية لا بد من الإلمام بجوانبها تفصيلاً، ولكنها ليست «ثقافة».
ومن هذه المرحلة الأولى والأولية، يصعد بعض الناس دون بعض، إلى مرحلة أخرى، ترتكز على الأولى، ولكنها ليست منها ولها طبيعة غير طبيعة المعلومات التي تستلزمها المرحلة الاولى، فالصاعدون بعقولهم إلى الدرجة الأعلى، يحاولون هناك أن يستخلصوا من تفصيلات الدرجة الأولى، تعميمات تختصرها في قوانين علمية أو ما يشبه القوانين العلمية من أحكام عامة، فإذا كانت المعرفة في المرحلة السابقة قد اقتصرت على مفردات جزئية متفرقة، فالمعرفة في هذه المرحلة الثانية تتخذ صورة التعميم الذي يضم تحت جناحيه أسرة كاملة من تلك التفصيلات الجزئية، كأن تقول - مثلاً - إن معدلات الدخل بين الحرفيين هذه الأيام، أعلى من معدلات الدخل بين جماعة المتعلمين في الكليات النظرية، ففي قول كهذا ضرب من المعرفة، يبني على مفردات المرحلة الأولى، لكنه ضرب يعمم الحكم ولا يقتصر على معرفة الأفراد كل منهم على حدة.
وقوانين العلوم بكل أنواعها، هي من هذا الصنف نفسه، حتى وإن كانت على درجة من الدقة الرياضية تبلغ الغاية القصوى، إذ هي بكل دقتها تلك، لا تخرج عن كونها تعميمات تستقطب مفردات المرحلة الأولى في أحكام شاملة، وإلى هنا - أيضاً - لا «ثقافة» فالفرق بين تفصيلات ما حولنا من ظواهر الطبيعة وعناصر البيئة، وأحداث الحياة، أقول: الفرق بين هذا كله من جهة، والأحكام العامة التي تستخلص منه «ربما في ذلك قوانين العلوم الطبيعية والاجتماعية على السواء» من جهة أخرى، هو الفرق الذي ينقلنا من مجرد معلومات متفرقة عن الأحياء والأشياء، إلى ما يستحق أن يسمى «معرفة»، فمثلاً قد يجمع التاجر وزبائنه خبرات كثيرة عن مسار الأسعار ارتفاعاً وانخفاضاً، لكنها مجرد خبرات جزئية حصلوها من الممارسة الفعلية في أسواق البيع والشراء، لكن «عالم الاقتصاد» وحده هو الذي يصعد من مستوى الخبرات الجزئية إلى مستوى «المعرفة»، لأنه هو الذي يستخرج القوانين التي تحكم ارتفاع الاسعار وانخفاضها، والإنسان العادي يتعلم من خبراته عاماً بعد عام، أنه إذا سقطت أمطار في مصر، فذلك يحدث في فصل الشتاء، ولكنها مجرد خبرات يجمعها من مشاهداته، لكن «عالم» الجغرافيا الطبيعية هو الذي يرتفع من مستوى الخبرات إلى مستوى «المعرفة» حين يستخرج لنا القوانين الطبيعية الكامنة وراء سقوط الأمطار في مصر في فصل الشتاء، وهكذا تستطيع أن تستعرض مئات الامثلة لما هو عند عامة الناس في حياتهم اليومية من معلومات جمعوها بالخبرة، ثم يجيء رجال العلوم المختلفة فينتقلون بتلك المعلومات الجزئية نفسها إلى مستوى القوانين العلمية، فتصبح الخبرة عندئذٍ «معرفة» أو قل إنها تصبح «علماً».
لكن لا المعلومات والخبرات المكسوبة من ممارسة الحياة العلمية، ولا العلوم التي تستخرج من تلك المعلومات والخبرات قوانينها، هو مما نعده «ثقافة»، لماذا؟ لأنه لا المرحلة الأولى، ولا المرحلة الثانية، في وسعها أن تقدم للإنسان البوصلة التي توجه طريق سيره في هذا الاتجاه أو ذاك ، فقد تعرف قوانين الاقتصاد كلها، لكنها لا تهديك: هل تأكل اليوم لحماً وأرزاً، أو تصوم اليوم عن الطعام؟ وقد تعرف قوانين الضوء كلها وقوانين الصوت كلها، لكنها لا تهديك. هل تقضي سهرتك الليلة مشاهداً للتليفزيون بصوته وضوئه، أو تأوي إلى فراشك في ساعة مبكرة من الليل؟ فليس في صلب خبراتنا وفي صلب علومنا ما يبين لنا ماذا ندع وماذا نختار، فهي وإن كانت الأدوات التي نستخدمها في تحقيق ما اخترناه لأنفسنا أهدافاً لحياتنا إلا أنها ليست هي نفسها التي تحسم لنا عملية الاختيار، ويمكن تشبيه ذلك بذراعيك ورجليك، فالذراعان لا تقرران لنا ماذا نتناوله من اشياء، والرجلان لا تقرران لنا إلى أين نسير ولكن ثمة مصدر آخر هو الذي يقرر لنا هذا وذاك، ثم يأتي بعد القرار استخدام الذراعين والرجلين للتنفيذ، فإذا وقعنا على ما يقوم فينا مقام البوصلة التي تشير إلى اتجاه السير، كان ذلك المصدر هو ما نسميه «بالثقافة» وبصورة أخرى نقول: إن المرحلة التي نجمع فيها معلومات وخبرات من حياتنا اليومية الجارية، تضع لنا ما حصلناه في خط أفقي، فالمعلومة إلى جوار المعلومة، لا تفصل إحداهما الأخرى، ثم تأتي المرحلة الثانية، التي هي مرحلة «المعرفة» أو «العلم» فتقوم فوق ذلك الخط الأفقي كما تقوم طوابق المبنى فوق الأساس، لكن هذه التركيبة كلها ليست معضونة، أي أنها لا تدب فيها حياة، ولا تستطيع وحدها أن تحدد لنفسها غايات، إنها لا تشبه الكائنات العضوية الحية، من نبات وحيوان وإنسان، لأن كل كائن من تلك الكائنات يستهدف الغايات التي تمليها عليه فطرته، فشجرة التوت تستهدف ثمار التوت، والحصان يستهدف أن ينسل حصاناً مثله، والإنسان يستهدف ما تهديه «ثقافته» أن يستهدفه.
وبهذا يتحول أضفنا ليتخذ صورة اكثر تحديداً ووضوحاً، فيصبح السؤال: ما الذي يضاف إلى كومة المعلومات الأولية التي يجمعها الإنسان بخبراته، ويضاف كذلك إلى الطوابق العليا التي تبني فوق تلك المعلومات الأولية في صورة علوم مختلفة، أقول: ما الذي يضاف إليها فتكون كأنما أضفنا الى السفينة دفة وبوصلة توجهانها إلى غاياتها؟ إذا وقفنا على الجواب، كان ذلك الجواب تحديداً لمعنى «الثقافة».
والجواب عندي هو أن الذي يضاف إلى هيكل المعلومات المتفرقة التي جمعناها، والعلوم التي أقمناها على تلك المعلومات الأولية، أقول إن الذي أضفناه إلى ذلك الهيكل الهامد فأصبح كالكائن العضوي الحي، يتحرك نحو غايات وضعها لنفسه ليسعى الى بلوغها، هو مجموعة من القيم السلوكية والخلقية والذوقية، استقيناها من ثلاثة مصادر رئيسية، هي الدين، والفن والأدب، أما الدين فهو الذي يقدم إلينا المبادئ الأساسية التي نسلك على هداها، والتي من شأنها أن تبلور لنا رؤية خاصة، وموقفاً معيناً من الكون والحياة بصفة عامة، ومن هنا كان لكل جماعة تؤمن بدين معين، رؤيتها الخاصة بها، والتي تصبح أهم العوامل في تشكيل الشخصية المشتركة «إذا جاز هذا القول» بين أفراد تلك الجماعة، فللإسلام رؤية، وللمسيحية رؤيتها، ولليهودية رؤيتها، وللهندوكية رؤيتها، وللبوذية رؤيتها، وهلم جرا على أن الديانات الثلاث الأولى (الإسلام والمسيحية واليهودية) تكون أسرة واحدة أبوها هو إبراهيم عليه السلام، وديانات الشرق الاقصى من هندوكية وبوذية وغيرهما تكون أسرة أخرى، ولكل من الأسرتين اتجاه عام في رؤية الاشياء والمواقف، والمفاضلة بين شئ وشئ، وبين موقف وموقف، وخلاصة القول هي أن العقيدة الدينية ذات أثر عميق في تشكيل وجهة النظر، أي في الوقفة الثقافية عند الإنسان المثقف.
وأما الفن بشتى فروعه- من موسيقى إلى تصوير ونحت وعمارة، فهو وإن يكن في مجموعه انعكاساً لأذواق الجماعات البشرية التي تفرز تلك الفنون، إلا أنه يعود فيصبح مؤثراً قوياً في تشكيل وجهات النظر عند الافراد، أي في وقفاتهم الثقافية، لماذا؟ لأن الفن - على اختلاف فروعه - هو في صميمه نسب محسوبة بين العناصر التي تكونه ، ومن ثم كانت معايشة الإنسان للمبدعات الفنية المحيطة به، لا بد أن تنتهي به إلى ميزان داخلي في تكوينه، يجعله مستريحاً لما يراه أو نافراً منه، أي أنه يجعله قابلاً لأوضاع الحياة من حوله أو رافضاً لها، أو بعبارة أخرى، تجعله ذا وقفة ثقافية لها طابعها الخاص المميز، فقد يقبل المصري وضعاً ما، هو نفسه الوضع الذي يرفضه الانجليزي أو الفرنسي، والعكس صحيح كذلك، فاختلاف الشعوب في تلك الموازين - هو اختلاف في وقفاتها الثقافية، ثم هو اختلاف نشأ عن الاختلاف في الذوق الفني.
وهنالك اخيراً مصدر الأدب، من شعر ونثر فني، ورواية، ومسرح، فالموضوع الرئيسي للأدب على اختلاف فروعه، هو الإنسان نفسه، وماذا يضمر في ذات نفسه، وكيف يتفاعل مع زميله الإنسان، حباً أو كرهاً، ومعايشة الإنسان للنتاج الأدبي في المجتمع الذي ينتمي إليه، لا بد أن ينتهي به - كما رأينا في الفن - إلى وقفات خاصة تجاه الآخرين، وتلك الوقفات هي من مقومات ثقافته.
تجتمع تلك القيم، أو المعايير، كلها في نفس المتلقي، فتكون هي «الحالة» العامة التي نخلع عليها اسم «الثقافة» فالثقافة «حالة» توجه الإنسان في اتجاه سيره، وفي ردود أفعاله وليست الثقافة محصولاً من معارف ومعلومات في حد ذاتها، بل هي الزهرة التي تنبتها تلك المعلومات والمعارف.
ألخص ما اسلفته فأقول: إن ثمة مرحلتين يجتازهما الإنسان، ليصل عن طريقهما إلى ثمرة تتولد عنهما من جهة، ولكنها من جهة أخرى تفرض عليهما وتوجههما وتقيم لهما الاهداف، وأما المرحلتان فهما:
أولاً: جمع معلومات عن أنفسنا وعن الدنيا التي نعيش فيها.
وثانياً: إنتاج العلوم المختلفة عن شتى الظواهر الطبيعية والبشرية على السواء، وكلتا المرحلتين في حد ذاتهما ليستا «ثقافة»، إذ الثقافة هي الروح التي تسري لتدفع ذلك البناء المعرفي «المعلومات والعلوم» نحو غايات معينة يريد الإنسان تحقيقها، وبالطبع لا تسري تلك الروح التي هي الثقافة آتية من عدم، بل إن لها مصادر تنبع منها، ولقد ذكرنا أن أهم تلك المصادر ثلاثة: الدين، والفن، والأدب، وبمقدار ما يملأ الإنسان وعاءه من تلك المصادر، تكون غزارة ثقافته وقوة دفعها.
وتلك المراحل الثلاث التي ذكرناها ، قد تكون - فيما أظن - هي نفسها الواحدات الثلاث التي أشار إليها الشاعر الإنجليزي المعروف «ت. س . اليوت» في قول له قاله استهجاناً لهذا العصر الذي نعيش فيه، إذ قال: لقد ضاعت منا «الحكمة» في بحر «المعرفة» ثم ضاعت منّا «المعرفة» في بحر «المعلومات المتفرقة»، وما اسماه إليوت هنا بالحكمة، هو نفسه ما تحدثت عنه تحت اسم «الثقافة»، ففي المجتمع السليم، يكون لكل من العناصر الثلاثة دوره ، لا يفرقه موج العنصر الآخر، ولكننا نلاحظ في عصرنا، أن وسائل الإعلام الجديدة قد أدت إلى كثرة المعلومات المتفرقة، دون أن ترتبط تلك الكثرة برباط «المعرفة» الموحدة، أو قل برباط النظرة العلمية الموحدة، ثم ازدادت حالتنا سوءاً على سوء، حين أصبحت تلك المعرفة العلمية ذاتها بغير «ثقافة» تقيم لها الاهداف وترسم لها الطريق.
ترى هل تجد طالبة الفلسفة صاحبة السؤال، ولو بصيصاً من نور في تحديد معنى للثقافة كما أرادت؟
كما يتلقى الجد من حفيدته رسالة، فيشعر وهو يقرؤها وكأنما هو شاخص ببصره إلى تيار الزمن، يراه كالنهر دافقاً من بعيد بعيد، ومتجهاً إلى مصب بعيد بعيد، وما هو والحفيدة والرسالة إلا حلقة من سلسلة، أولها في الأزل وآخرها في الأبد، أقول إنه كما يتلقى الجد من حفيدته رسالة، تلقيت رسالة من طالبة تدرس الفلسفة، وهي الآن في آخر شوطها الجامعي، والطالبة تسألني - راجية أن تسمع مني الجواب - عن «الثقافة» ما معناها؟ تقول: هنالك موضوع يشغل بالي وبال زملائي.. وهو موضوع «الثقافة» فماذا تعني كلمة «ثقافة»؟ وما هو دور الثقافة في حياة الإنسان المعاصر؟ وأول ما أجيب به عن سؤالك يا ابنتي، هو أنك قد اخترت كلمة رواغة، لا يكاد صائدها يمسك بطرف من اطرافها، حتى تفلت من بين أصابعه، وذلك لأن اطرافها كثيرة ومتفرقة، حتى لنستطيع - إذا أنت أمسكت بأحدها، وظننت أنها الآن قد باتت في قبضتك، أن نستغني عن ذلك الجزء من اجزائها وتفر هاربة، وتظل مع ذلك «ثقافة» فإذا كان التعريف الجامع المانع يشبه أن يكون محالاً، إلا في المعاني الرياضية أو ما يجري مجراها، فهو أشد استحالة في تحديدنا لمعنى «الثقافة»، ومن هنا لها من التعريفات بقدر من تناولوها بمحاولات التحديد، فلكل من هؤلاء تعريفه لها، وكأننا نعيد على أنفسنا حكاية الفيل في مدينة العميان، إذ التفوا حوله كل يلمسه بأصابعه من حيث استطاع أن يلمسه، فلما سئلوا بعد ذلك: كيف وجدتموه؟ فكان لكل منهم جواب يختلف عن أجوبة الآخرين.
وها أنت ذي تسألينني: ما الثقافة؟ وسأقدم لك جواباً، لا أدعي أنه الجواب الذي لا جواب سواه، إذ هو جواب أصف به مسقط أصابعي على جسم الفيل، وللآخرين أجوبتهم، لكن هذا الاختلاف لا يعني بالضرورة أننا جميعاً على قدم المساواة من حيث الصواب والخطأ، بل سيكون بيننا تفاوت يُقاس بمقياس المنفعة وملاءمة الظروف، فالجواب الذي يجعل المثقف أكثر صلاحية لزمانه، أصدق من الجواب الذي من شأنه أن يقيم حجاباً بين المثقف والحياة في عصره، ولقد أحسنت يا فتاتي، عندما ذكرت كلمة «معاصر» في سؤالك: ما دور الثقافة في حياة الإنسان المعاصر؟ إذ لا شك في أن شروط «المثقف» قد تغيرت بتغير العصور، فكان لكل عصر ضرورات معينة يشترط توافرها فيمن يسمى بالمثقف، فحيناً كانت الفروسية شرطاً، وحيناً آخر كان التفلسف شرطاً، وحيناً ثالثاً كان الإلمام بشرائع الدين وقواعد اللغة شرطاً، وحيناً رابعاً كان اصطناع النظرة العلمية شرطاً، وهلم جرا، وبالطبع لم يكن لكل عصر شرط واحد يطالب بتوافره في المثقف، ولكنها كانت دائماً مجموعة قليلة من صفات أساسية هي التي يتطلبها كل عصر من مثقفيه.
فإذا تعددت بين أيدينا الآراء في تحديد «الثقافة» في عصرنا كيف يكون؟ فلا بد من الاحتكام عند المفاضلة إلى الحياة في عصرنا وما تتطلبه من المثقف، لنرى أي الآراء أقرب استجابة للعصر وظروفه، وفي هذا الإطار أتقدم إلى السائلة بجوابي.
لعل أكثر المداخل إلى موضوعنا يسراً ووضوحاً، هو أن نبين أولاً، كيف أن أدراك الإنسان لأوضاع الحياة التي يعشيها، ويعيشها معه سائر الناس، إنما يتم على ثلاث درجات متصاعدة، كل درجة منها تقام على الدرجة التي سبقتها لكن بينما يتحتم على كل فرد من الناس أن يمارس حياته على مستوى الدرجة الأولى، فإنه لا يتاح الصعود إلى الدرجة الوسطى إلا لبعض الناس دون بعض، ثم لا يتاح الصعود من الدرجة الوسطى إلى الدرجة التي تليها إلا للعدد الأقل من سكان الدرجة الوسطى.
أما أولى تلك الدرجات، وأدناها، فهي تلك التي لا بد فيها للإنسان من الإلمام بالكثير جداً من تفصيلات المكان الذي كتب له أن يعيش فيه، وبغير هذا الإلمام الذي يتفاوت فيه الأفراد كثرة وقلة، يتعذر الحصول على الطعام والشراب، وما يتبع ذلك من معلومات أولية ضرورية، فلا بد لكل إنسان أن يعرف - مثلاً - أين تكون وسيلة المواصلات؟ ومتي تتحرك؟ وأين يجد العلاج إذا أصابه مرض؟ وما هي الصحف اليومية التي تباع وأين تباع؟ وأن يعرف أين مكتب البريد؟ ما الطريق إلى المدارس التي يلحق بها ابناءه؟ وما هي الاجراءات التي تتخذ في هذا السبيل؟ وهكذا من تفصيلات الحياة اليومية الجارية - وإلى هنا لا «ثقافة». وقبل أن اترك هذه الدرجة الأولى، التي لا مناص من معرفة ما استطعنا معرفته من تفصيلاتها، لكي تدور معنا عجلة الحياة، أود أن ألفت النظر إلى أن هنالك من ضروب المعلومات الأولية التفصيلية ما ليس له أول ولا آخر، وبعضها قد يخدع بحيث يظن أن الإلمام به نوع من «الثقافة» في حين أنه لا يندرج في دنيا الثقافة، بناء على المقياس الذي أنا في سبيل عرضه وشرحه، فمثلاً، قد تجد من الناس من يعرف كم فداناً تبلغ مساحة الأرض المزروعة في مصر وكم من هذه المساحة يزرع قطناً؟ وكم منها يزرع قمحاً؟ كم يبلغ عدد السكان في عواصم المحافظات؟ وما شابه ذلك من تفصيلات الأمر الواقع، كل هذه تدخل في نطاق الدرجة الأولى من الدرجات الثلاث التي أشرنا إليها، وأكرر القول بأن هذه المرحلة الأولى والاولية لا بد من الإلمام بجوانبها تفصيلاً، ولكنها ليست «ثقافة».
ومن هذه المرحلة الأولى والأولية، يصعد بعض الناس دون بعض، إلى مرحلة أخرى، ترتكز على الأولى، ولكنها ليست منها ولها طبيعة غير طبيعة المعلومات التي تستلزمها المرحلة الاولى، فالصاعدون بعقولهم إلى الدرجة الأعلى، يحاولون هناك أن يستخلصوا من تفصيلات الدرجة الأولى، تعميمات تختصرها في قوانين علمية أو ما يشبه القوانين العلمية من أحكام عامة، فإذا كانت المعرفة في المرحلة السابقة قد اقتصرت على مفردات جزئية متفرقة، فالمعرفة في هذه المرحلة الثانية تتخذ صورة التعميم الذي يضم تحت جناحيه أسرة كاملة من تلك التفصيلات الجزئية، كأن تقول - مثلاً - إن معدلات الدخل بين الحرفيين هذه الأيام، أعلى من معدلات الدخل بين جماعة المتعلمين في الكليات النظرية، ففي قول كهذا ضرب من المعرفة، يبني على مفردات المرحلة الأولى، لكنه ضرب يعمم الحكم ولا يقتصر على معرفة الأفراد كل منهم على حدة.
وقوانين العلوم بكل أنواعها، هي من هذا الصنف نفسه، حتى وإن كانت على درجة من الدقة الرياضية تبلغ الغاية القصوى، إذ هي بكل دقتها تلك، لا تخرج عن كونها تعميمات تستقطب مفردات المرحلة الأولى في أحكام شاملة، وإلى هنا - أيضاً - لا «ثقافة» فالفرق بين تفصيلات ما حولنا من ظواهر الطبيعة وعناصر البيئة، وأحداث الحياة، أقول: الفرق بين هذا كله من جهة، والأحكام العامة التي تستخلص منه «ربما في ذلك قوانين العلوم الطبيعية والاجتماعية على السواء» من جهة أخرى، هو الفرق الذي ينقلنا من مجرد معلومات متفرقة عن الأحياء والأشياء، إلى ما يستحق أن يسمى «معرفة»، فمثلاً قد يجمع التاجر وزبائنه خبرات كثيرة عن مسار الأسعار ارتفاعاً وانخفاضاً، لكنها مجرد خبرات جزئية حصلوها من الممارسة الفعلية في أسواق البيع والشراء، لكن «عالم الاقتصاد» وحده هو الذي يصعد من مستوى الخبرات الجزئية إلى مستوى «المعرفة»، لأنه هو الذي يستخرج القوانين التي تحكم ارتفاع الاسعار وانخفاضها، والإنسان العادي يتعلم من خبراته عاماً بعد عام، أنه إذا سقطت أمطار في مصر، فذلك يحدث في فصل الشتاء، ولكنها مجرد خبرات يجمعها من مشاهداته، لكن «عالم» الجغرافيا الطبيعية هو الذي يرتفع من مستوى الخبرات إلى مستوى «المعرفة» حين يستخرج لنا القوانين الطبيعية الكامنة وراء سقوط الأمطار في مصر في فصل الشتاء، وهكذا تستطيع أن تستعرض مئات الامثلة لما هو عند عامة الناس في حياتهم اليومية من معلومات جمعوها بالخبرة، ثم يجيء رجال العلوم المختلفة فينتقلون بتلك المعلومات الجزئية نفسها إلى مستوى القوانين العلمية، فتصبح الخبرة عندئذٍ «معرفة» أو قل إنها تصبح «علماً».
لكن لا المعلومات والخبرات المكسوبة من ممارسة الحياة العلمية، ولا العلوم التي تستخرج من تلك المعلومات والخبرات قوانينها، هو مما نعده «ثقافة»، لماذا؟ لأنه لا المرحلة الأولى، ولا المرحلة الثانية، في وسعها أن تقدم للإنسان البوصلة التي توجه طريق سيره في هذا الاتجاه أو ذاك ، فقد تعرف قوانين الاقتصاد كلها، لكنها لا تهديك: هل تأكل اليوم لحماً وأرزاً، أو تصوم اليوم عن الطعام؟ وقد تعرف قوانين الضوء كلها وقوانين الصوت كلها، لكنها لا تهديك. هل تقضي سهرتك الليلة مشاهداً للتليفزيون بصوته وضوئه، أو تأوي إلى فراشك في ساعة مبكرة من الليل؟ فليس في صلب خبراتنا وفي صلب علومنا ما يبين لنا ماذا ندع وماذا نختار، فهي وإن كانت الأدوات التي نستخدمها في تحقيق ما اخترناه لأنفسنا أهدافاً لحياتنا إلا أنها ليست هي نفسها التي تحسم لنا عملية الاختيار، ويمكن تشبيه ذلك بذراعيك ورجليك، فالذراعان لا تقرران لنا ماذا نتناوله من اشياء، والرجلان لا تقرران لنا إلى أين نسير ولكن ثمة مصدر آخر هو الذي يقرر لنا هذا وذاك، ثم يأتي بعد القرار استخدام الذراعين والرجلين للتنفيذ، فإذا وقعنا على ما يقوم فينا مقام البوصلة التي تشير إلى اتجاه السير، كان ذلك المصدر هو ما نسميه «بالثقافة» وبصورة أخرى نقول: إن المرحلة التي نجمع فيها معلومات وخبرات من حياتنا اليومية الجارية، تضع لنا ما حصلناه في خط أفقي، فالمعلومة إلى جوار المعلومة، لا تفصل إحداهما الأخرى، ثم تأتي المرحلة الثانية، التي هي مرحلة «المعرفة» أو «العلم» فتقوم فوق ذلك الخط الأفقي كما تقوم طوابق المبنى فوق الأساس، لكن هذه التركيبة كلها ليست معضونة، أي أنها لا تدب فيها حياة، ولا تستطيع وحدها أن تحدد لنفسها غايات، إنها لا تشبه الكائنات العضوية الحية، من نبات وحيوان وإنسان، لأن كل كائن من تلك الكائنات يستهدف الغايات التي تمليها عليه فطرته، فشجرة التوت تستهدف ثمار التوت، والحصان يستهدف أن ينسل حصاناً مثله، والإنسان يستهدف ما تهديه «ثقافته» أن يستهدفه.
وبهذا يتحول أضفنا ليتخذ صورة اكثر تحديداً ووضوحاً، فيصبح السؤال: ما الذي يضاف إلى كومة المعلومات الأولية التي يجمعها الإنسان بخبراته، ويضاف كذلك إلى الطوابق العليا التي تبني فوق تلك المعلومات الأولية في صورة علوم مختلفة، أقول: ما الذي يضاف إليها فتكون كأنما أضفنا الى السفينة دفة وبوصلة توجهانها إلى غاياتها؟ إذا وقفنا على الجواب، كان ذلك الجواب تحديداً لمعنى «الثقافة».
والجواب عندي هو أن الذي يضاف إلى هيكل المعلومات المتفرقة التي جمعناها، والعلوم التي أقمناها على تلك المعلومات الأولية، أقول إن الذي أضفناه إلى ذلك الهيكل الهامد فأصبح كالكائن العضوي الحي، يتحرك نحو غايات وضعها لنفسه ليسعى الى بلوغها، هو مجموعة من القيم السلوكية والخلقية والذوقية، استقيناها من ثلاثة مصادر رئيسية، هي الدين، والفن والأدب، أما الدين فهو الذي يقدم إلينا المبادئ الأساسية التي نسلك على هداها، والتي من شأنها أن تبلور لنا رؤية خاصة، وموقفاً معيناً من الكون والحياة بصفة عامة، ومن هنا كان لكل جماعة تؤمن بدين معين، رؤيتها الخاصة بها، والتي تصبح أهم العوامل في تشكيل الشخصية المشتركة «إذا جاز هذا القول» بين أفراد تلك الجماعة، فللإسلام رؤية، وللمسيحية رؤيتها، ولليهودية رؤيتها، وللهندوكية رؤيتها، وللبوذية رؤيتها، وهلم جرا على أن الديانات الثلاث الأولى (الإسلام والمسيحية واليهودية) تكون أسرة واحدة أبوها هو إبراهيم عليه السلام، وديانات الشرق الاقصى من هندوكية وبوذية وغيرهما تكون أسرة أخرى، ولكل من الأسرتين اتجاه عام في رؤية الاشياء والمواقف، والمفاضلة بين شئ وشئ، وبين موقف وموقف، وخلاصة القول هي أن العقيدة الدينية ذات أثر عميق في تشكيل وجهة النظر، أي في الوقفة الثقافية عند الإنسان المثقف.
وأما الفن بشتى فروعه- من موسيقى إلى تصوير ونحت وعمارة، فهو وإن يكن في مجموعه انعكاساً لأذواق الجماعات البشرية التي تفرز تلك الفنون، إلا أنه يعود فيصبح مؤثراً قوياً في تشكيل وجهات النظر عند الافراد، أي في وقفاتهم الثقافية، لماذا؟ لأن الفن - على اختلاف فروعه - هو في صميمه نسب محسوبة بين العناصر التي تكونه ، ومن ثم كانت معايشة الإنسان للمبدعات الفنية المحيطة به، لا بد أن تنتهي به إلى ميزان داخلي في تكوينه، يجعله مستريحاً لما يراه أو نافراً منه، أي أنه يجعله قابلاً لأوضاع الحياة من حوله أو رافضاً لها، أو بعبارة أخرى، تجعله ذا وقفة ثقافية لها طابعها الخاص المميز، فقد يقبل المصري وضعاً ما، هو نفسه الوضع الذي يرفضه الانجليزي أو الفرنسي، والعكس صحيح كذلك، فاختلاف الشعوب في تلك الموازين - هو اختلاف في وقفاتها الثقافية، ثم هو اختلاف نشأ عن الاختلاف في الذوق الفني.
وهنالك اخيراً مصدر الأدب، من شعر ونثر فني، ورواية، ومسرح، فالموضوع الرئيسي للأدب على اختلاف فروعه، هو الإنسان نفسه، وماذا يضمر في ذات نفسه، وكيف يتفاعل مع زميله الإنسان، حباً أو كرهاً، ومعايشة الإنسان للنتاج الأدبي في المجتمع الذي ينتمي إليه، لا بد أن ينتهي به - كما رأينا في الفن - إلى وقفات خاصة تجاه الآخرين، وتلك الوقفات هي من مقومات ثقافته.
تجتمع تلك القيم، أو المعايير، كلها في نفس المتلقي، فتكون هي «الحالة» العامة التي نخلع عليها اسم «الثقافة» فالثقافة «حالة» توجه الإنسان في اتجاه سيره، وفي ردود أفعاله وليست الثقافة محصولاً من معارف ومعلومات في حد ذاتها، بل هي الزهرة التي تنبتها تلك المعلومات والمعارف.
ألخص ما اسلفته فأقول: إن ثمة مرحلتين يجتازهما الإنسان، ليصل عن طريقهما إلى ثمرة تتولد عنهما من جهة، ولكنها من جهة أخرى تفرض عليهما وتوجههما وتقيم لهما الاهداف، وأما المرحلتان فهما:
أولاً: جمع معلومات عن أنفسنا وعن الدنيا التي نعيش فيها.
وثانياً: إنتاج العلوم المختلفة عن شتى الظواهر الطبيعية والبشرية على السواء، وكلتا المرحلتين في حد ذاتهما ليستا «ثقافة»، إذ الثقافة هي الروح التي تسري لتدفع ذلك البناء المعرفي «المعلومات والعلوم» نحو غايات معينة يريد الإنسان تحقيقها، وبالطبع لا تسري تلك الروح التي هي الثقافة آتية من عدم، بل إن لها مصادر تنبع منها، ولقد ذكرنا أن أهم تلك المصادر ثلاثة: الدين، والفن، والأدب، وبمقدار ما يملأ الإنسان وعاءه من تلك المصادر، تكون غزارة ثقافته وقوة دفعها.
وتلك المراحل الثلاث التي ذكرناها ، قد تكون - فيما أظن - هي نفسها الواحدات الثلاث التي أشار إليها الشاعر الإنجليزي المعروف «ت. س . اليوت» في قول له قاله استهجاناً لهذا العصر الذي نعيش فيه، إذ قال: لقد ضاعت منا «الحكمة» في بحر «المعرفة» ثم ضاعت منّا «المعرفة» في بحر «المعلومات المتفرقة»، وما اسماه إليوت هنا بالحكمة، هو نفسه ما تحدثت عنه تحت اسم «الثقافة»، ففي المجتمع السليم، يكون لكل من العناصر الثلاثة دوره ، لا يفرقه موج العنصر الآخر، ولكننا نلاحظ في عصرنا، أن وسائل الإعلام الجديدة قد أدت إلى كثرة المعلومات المتفرقة، دون أن ترتبط تلك الكثرة برباط «المعرفة» الموحدة، أو قل برباط النظرة العلمية الموحدة، ثم ازدادت حالتنا سوءاً على سوء، حين أصبحت تلك المعرفة العلمية ذاتها بغير «ثقافة» تقيم لها الاهداف وترسم لها الطريق.
ترى هل تجد طالبة الفلسفة صاحبة السؤال، ولو بصيصاً من نور في تحديد معنى للثقافة كما أرادت؟
3 التعليقات:
ليست أستاذة الفلسفة فقط من وجدت بصيص نورالإجابة عن موضوع:ثقافة الإنسان المعاصر بل أستاذة الأدب أيضا، شكرا للذي وضع الموضوع وشكرا للدكتور ووضعه الله في ميزان حسناته.
طويل جدا
طويل ومفهمة ولا شي
إرسال تعليق